أخبارالثقافة والفن
عبد الله فيلبي: من مستشار لعبد العزيز آل سعود إلى الموت منسياً في بيروت
في الثاني من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1960 رحل بهدوء ومن دون ضوضاء واحد من أهم الشخصيات البريطانية التي لعبت دوراً محورياً في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين.
فقد توفي في ذلك اليوم هاري سينت جون فيلبي أو عبد الله فيلبي كما كان يريد أن يُعرف في الشرق الأوسط، بعد أن أمضى نحو نصف قرن فيه.
ويقول خيري حماد في كتابه “عبد الله فيلبي قطعة من تاريخ العرب الحديث” والصادر عام 1961، إن عدد من حضروا الجنازة كان أقل من عشرة أشخاص.
وجاء في مقدمة الكتاب: طلعت الصحف اللبنانية صباح الثاني من تشرين الأول من هذا العام وقد حملت في صدر صفحاتها الأولى النبأ التالي: “صُلي أمس على المرحوم الحاج عبد الله فيلبي في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت حوالي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حسب الشريعة الإسلامية وتولى الصلاة عليه أحد المشايخ ثم نقل الجثمان إلى مقبرة الباشورة حيث ووري الثرى بعد عشر دقائق، وقد اشترك في تشييع الجثمان عدد لا يتجاوز العشرة بينهم ولده وزوجته والحمالون الذين نقلوا الجثمان إلى مقره الأخير”.
ويضيف حماد أن هذا الرجل الذي لم يضم مشيعوه إلى مثواه الأخير سعودياً أو عراقياً أو أردنياً واحداً، كان في يوم من الأيام يتحكم في مصائر السعودية والعراق والأردن ويقضي في أمورها كما يشاء ويهوى والجميع لا ينشدون سوى رضاه ولا يخطبون إلا وده، فهو المعطي والمانع، وهو المعز والمذل وكبار الملوك والأمراء من أصدقائه والمقربين إليه.
ورغم الدور الكبير الذي لعبه فيلبي في الشرق الأوسط خلال المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية إلا أنه ذهب ضحية للإهمال من قبل الحكومة البريطانية ربما بسبب ارتباط اسمه بفضيحة الجاسوس البريطاني كيم فيلبي، نجل عبد الله فيلبي، الذي فر إلى الاتحاد السوفييتي السابق عام 1963، والخلافات بينه وبين الحكومة البريطانية حول عدد من القضايا إلى درجة أنه وضع في ما يشبه السجن في بريطانيا لمدة عام خلال الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن الدور الذي لعبه فيلبي في الشرق الأوسط لا يقل أهمية عن دور لورانس العرب عندما كان الاثنان يجوبان المنطقة ويديران دفة الأمور فيها، إلا أن الرجل لم ينل الشهرة والتقدير الذي نالهما لورانس في الأوساط البريطانية، إذ أن الأخير رحل عن المنطقة في أعقاب مؤتمر فرساي للسلام عام 1919 الذي انتهى بتقسيم الشرق الأوسط بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، بينما ظل فيلبي في المنطقة يقيم الدول والممالك.
كان لورانس قد عاد مؤقتا إلى المنطقة أواخر عام 1921 حيث أوفدته الخارجية البريطانية إلى الحجاز للتفاوض مع الشريف حسين حول إبرام معاهدة مع بريطانيا بخصوص مستقبل الأراضي العربية التي تم إخراج الاتراك منها.
لكن بسبب توتر الأوضاع في شرق الأردن طُلب منه التوجه إلى هناك حيث تولى منصب المعتمد السياسي لمساعدة الأمير عبد الله بن حسين في تثبيت أركان حكمه بطلب من وزير المستعمرات ونستون تشرشل.
لكن لوارنس أوصى بتعيين فيلبي في محله في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1921 وظل فيلبي في هذا المنصب حتى عام 1924.
مجاهل النسيان
وبلغت درجة الإهمال التي تعرض لها فيلبي بعد مماته أن لا أثر لقبره في مقبرة الباشورة في قلب بيروت ولا أثر له في سجلات المقبرة
وحسب مقال كتبه مايكل يونغ ومهند الحاج علي حمل عنوان “مقال مصور: ماذا بقي من بيروت كما عرفها كيم فيلبي؟” ونشرها مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في 17 أكتوبر/ تشرين الاول 2019 أن لا أثر لقبر فيلبي في المقبرة حيث جاء في المقال: “مدافن الباشورة التاريخية في بيروت، حيث يرقد عدد كبير من أبناء العائلات السنية في لبنان فضلا عن حكام عثمانيين. هنا دُفن والد فيلبي سينت جون فيلبي الذي كان شخصية مثيرة للارتعاد، وقد اعتنق الإسلام وربطته علاقة صداقة بالعاهل السعودي الأول عبد العزير آل سعود. وانضمام كيم إلى الاستخبارات تم بداية بتوصية من والده وقد تركت وفاته في بيروت في أيلول/سبتمبر 1960 عميق الأثر لدى كيم الذي شعر بأنه مدمر فأقبل على شرب الكحول بإسراف وفقاً لعادته التي درج عليها للتنفيس عن الأسى وعن أمور أخرى كثيرة. لا يتضمن سجل المدافن أي إشارة إلى قبرٍ باسم سنت جون، وعلى الرغم من عملية البحث التي أُجريَت، لم يظهر القبر، حتى لو كان مؤكّداً على الأرجح أنه مدفون هناك”.
فهل ضاع قبر فيلبي لأنه أوصى ربما بأن يكون قبره مثل قبور الوهابيين الذين لا يضعون أي شواهد على قبورهم أو ما يشير إلى هوية صاحب القبر ولا يقيمون أي بناء عليها وبالتالي ضاع أي أثر له مع مرور الوقت؟
حياته
أبصر هاري سينت جون بريدجر فيلبي النور في سيلان (سريلانكا حاليا) في 3 أبريل/نيسان 1885 حيث كان والده يملك مزرعة شاي هناك، ووالدته كانت ابنة الجنرال في الجيش البريطاني جون دنكان، وعندما كبرت الأسرة عادت إلى بريطانيا عام 1891 لضمان تعليم الأطفال في المدارس البريطانية
التحق فيلبي مع شقيقه الأكبر توم بمدرسة داخلية في هينفيلد عام 1894 وبعدها بأربعة أعوام وبعد نيله الدرجة الأولى في الدراسة انتقل إلى مدرسة ويستمنستر ونظراً لتفوقه التحق بكلية ترينتي المرموقة في جامعة كامبريدج في عام 1904، وفي هذه المرحلة بدأت تظهر على فيلبي الميول الاشتراكية والليبرالية.
عام 1907 أنهى دراسته الجامعية حاصلاً على درجة الامتياز، وسجل نفسه في قوائم الراغبين بالعمل في الإدارة البريطانية في الهند. وخلال تلك الفترة اجتاز دورة تدريب في اللغات الشرقية والقانون الهندي القديم والتاريخ وسافر إلى فرنسا وألمانيا حيث تعلم اللغتين الفرنسية والألمانية بسرعة، كما بدأ يتعلم اللغة الهندية والفارسية وبعض مبادئ اللغة العربية.
في عام 1908 توجه إلى الهند على متن باخرة من مدينة ليفربول إلى ميناء مومباي ومنها إلى مدينة لاهور الواقعة حاليا في باكستان.
تعلم خلال وجوده في الهند اللغة البنجابية، كما بدأ يهتم بالدين الإسلامي وبدأ بتعلم القرآن على يد أحد صغار الكتبة المسلمين العاملين في دائرته في جيروم في إقليم الكشمير.
وبعدها بأقل من عام انتقل إلى مدينة روالبندي فتعرف هناك على زوجته دورا، ابنة أحد المهندسين في دائرة الأشغال العامة في المدينة، وتزوجها في عام 1910.
تعلم خلال تلك الفترة اللغات الأوردية والبلوشية والفارسية، كما رزق بابنه البكر كيم، الجاسوس الشهير لاحقا كيم فيلبي، عام 1912.
وتزوج فيلبي من فتاة ذات أصول بلوشية بعد عودته إلى السعودية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأنجب منها ولدين هم فارس وخالد ولديه أحفاد يحملون الجنسية السعودية ويقيمون هناك.
ارتقى فيلبي السلم الوظيفي حتى تولى رئاسة قسم الصحف في دائرة التحقيقات الجنائية في البنجاب.
خلال الحرب العالمية الأولى كلفته الحكومة البريطانية بالتوجه إلى العراق للاشتراك في الحملة البريطانية التي انطلقت من الهند لاحتلال العراق وطرد الأتراك منه بعد وقوف تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب.
وصل أواخر عام 1915 إلى ميناء البصرة وانضم إلى الحملة البريطانية المتجهة إلى بغداد وعمل مع فريق بيرسي كوكس، رئيس الدائرة السياسية الملحقة بالحملة، وبعد فترة عينه كوكس مساعداً مالياً له.
في أعقاب فشل الحملة العسكرية والهزيمة التي تعرضت لها القوات البريطانية في منطقة كوت العمارة، انتقل الإشراف على الحملة من حكومة الهند إلى وزارة الحربية البريطانية التي عينت الجنرال ستانلي مود لقيادتها.
خلال تلك الفترة تعرف فيلبي على غيرترود بيل التي قدمت من مكتب المخابرات الحربية البريطانية في القاهرة، حيث كانت تعمل إلى جانب لورانس العرب تحت قيادة جيلبرت كلايتون.
خلال تلك الفترة كانت تجري مفاوضات بين المندوب السامي البريطاني في مصر مكماهون، والشريف حسين من أجل إعلان الثورة في الحجاز ضد الأتراك. كما اجتمع كوكس مع عبد العزيز آل سعود في جزيرة دارين ( تاروت حالياً) الواقعة على ساحل القطيف وعقد معه معاهدة تُعرف باسم معاهدة دارين في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1915 تعهدت بموجبها بريطانيا بالاعتراف باستقلال بلاده مقابل ولاء ابن سعود لبريطانيا وعدم الاعتداء على المحميات البريطانية على سواحل الخليج، مثل البحرين وقطر والكويت وعمان. وتعهدت بريطانيا بدفع 5 آلاف جنية إسترليني شهريا لابن سعود وتقديم ألف رشاش وبندقية ومئة ألف طلقة له.
انتقل فيلبي إلى العمل في مكتب كوكس في بغداد إلى جانب غيرترود بيل حيث بات اليد اليمنى لكوكس.
وشاءت الصدف أن يتم تكليف فليبي بقيادة بعثة إنجليزية تنطلق من بغداد للقاء ابن سعود في الرياض. وانطلقت البعثة من البحرين واستمرت رحلة البعثة التي ضمت عدداً كبيراً من الجمال التي حملت المؤون وأفراد البعثة أربعين يوماً قطعت خلالها مسافة 1300 كيلومتر عبر الصحراء. كما حملت البعثة معها مبلغاً كبيراً من المال برفقة العديد من الحراس.
ويصف فيلبي لقاءه الأول بابن سعود قائلاً: “كان ينتظرنا رجل عجوز ضئيل الجسم يبلغ السبعين من عمره، وأخذت أتساءل عن هذا الشيخ الضئيل الجسم عندما رأيته يقف على قدميه قائلاً: والآن اسمحوا لي بالذهاب فسيقابلكم ولدنا. ولم يكد يغيب عن ناظري حتى أدركت أن ثمة شخصاً آخر كان يجلس في الغرفة طيلة الوقت لكن لم يسترع انتباهنا في البداية لأنه كان منزويا في زواية بعيدة وسرعان ما رأيته يتقدم إلينا. إنه رجل عملاق…. هو ابن سعود نفسه سيد الجزيرة العربية، لكنه في حضرة أبيه عبد الرحمن لا يعدو أن يكون الولد البار المطيع”.
وكانت تلك بداية علاقة وثيقة وقوية ربطت بين فيلبي وابن سعود استمرت حتى وفاة عبد العزير آل سعود في عام ،1953 قام خلالها بالعديد من المهام والأعمال سواء نيابة عن الحكومة البريطانية أم بصفته الشخصية.
منذ أن قام فيلبي برحلته الأولى عام 1917 إلى الجزيرة العربية انطلاقاً من شواطئ الإحساء مروراً بالرياض إلى مدينة جدة على البحر الأحمر، ولدت لديه رغبة شديدة في اجتياز الربع الخالي واستكشاف هذه المنطقة المترامية الأطراف التي كانت شبه مجهولة حتى ذلك الوقت.
وطلب فيلبي من ابن سعود الإذن والمساعدة لاجتياز الربع الخالي عبر ترتيب قافلة ترافقه في مهمته المحفوفة بالمخاطر لكن الظروف لم تتيسر له حتى مقتبل عام 1932.
وكانت ثمرة الرحلة كتاب “الربع الخالي” الذي يبلغ عدد صفحاته أكثر من 600 صفحة ونشر في عام 1932.
وتضمن الكتاب وصفا دقيقا لما شاهده وعاينه فيلبي خلال تلك الرحلة التي استمرت نحو شهرين ونصف الشهر قطعت خلالها القافلة الربع الخالي.
كان فيلبي يقوم خلال الرحلة بتدوين ملاحظات تفصيلية عن طبيعة المنطقة التي يمر بها ويصف الغطاء النباتي والحيوانات والحشرات التي صادفها وكان يقوم بجمع ما يستطيع جمعه من حشرات وحيوانات ويضعها في محلول خاص للحفاظ عليها.
وكتاب “الربع الخالي” المنشور عام 1932، ليس سوى واحدا من نحو 15 كتاباً ألفه فيلبي عن السعودية والشرق الأوسط وجرت وترجمة أغلبها إلى اللغة الغربية مثل:
“بنات سبأ” 1939 و “جزيرة العرب الوهابيين” 1928 و “قلب الجزيرة العربية.. سجل الإسفار والاستكشاف” 1922 و “حاج في الجزيرة العربية” 1943 و “أيام عربية سيرة ذاتية” 1948 و “نجود الجزيرة العربية” 1942 و “أرض مدين” 1957 و “أربعون عاماً في البرية” 1957 و “مغامرات النفط العربي” 1964 و “بعثة إلى نجد” 1930 و “مرتفعات الجزيرة العربية” 1952 و “هارون الرشيد” 1933 و “يوبيل العرب” 1952 وهو مكرس للحديث عن الملك عبد العزيز آل سعود والحروب التي خاضها لتأسيس المملكة العربية السعودية.
أما كتابه “العراق في زمن الحرب” فيضم مجموعة كبيرة من الصور النادرة التي التقطها فيلبي أثناء وجوده في العراق ورحتله الأولى إلى الجزيرة العربية للقاء عبد العزيز آل سعود عام 1917 وصدر الكتاب عام 1919.
الرحلة الملحمية
في بداية عام 1932 انطلقت قافلة فيلبي لعبور الربع الخالي. لكن بعد نحو خمسة أيام من المسير انطلاقاً من ناحية “شناء” وقطع مسافة 140 ميلاً (225 كم) وصلت القافلة إلى مشارف الربع الخالي في “حض الحواية”، لكنها تراجعت عن استكمال المسيرة بسبب تعب الجمال وانهاكها نتيجة قلة المرعى والماء مما اضطر القافلة إلى تغيير مسارها والعودة إلى نايفة التي تبعد مسافة 140 ميلا عن النقطة التي وصلت إليها للتزود بالماء والمؤن.
ويصف فيلبي الموقف في كتابه: ” إذا وصلنا إلى نايفة فذلك يعني أن إبلنا قطعت مسافة 280 ميلاً (450 كم) في صحراء خالية من الماء وجرداء. كان بوسع هذه الإبل السير مدة تسعة أو عشرة أيام بلا ماء ….لكن قرارنا بالعودة مكننا من تخصيص أربع أو خمس قراب من الماء الثمين لإنقاذ سبعة أو ثمانية حيوانات تأثرت كثيراً بالآلام والأوجاع التي أصابتها طوال اليوم……..جرى إخضاع بعض الإبل التي لم يستبد بها الظمأ لعملية “تشمم” الماء. هذه طريقة اقتصادية لإنعاش الإبل، وذلك عن طريق سكب إبريق من الماء من خلال فتحتي أنف الجمل لتبريد الرأس والمخ. ليس هناك شك في فائدتها في تحقيق هذا الهدف”.
بعد تسعة أيام وصلت القافلة إلى نايفة ويصف فيلبي لحظة وصولهم بقوله: “تقاطرنا نازلين على نايفة. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلا. كنا قد قطعنا 45 ميلاً أثناء النهار، وهذا أداء رائع للإبل في اليوم التاسع بلا ماء وأداء رائع لرجال أجهدهم الجوع. ناديت زايد أثناء مروري على مخيم مطبخه هل لديك أي شيء من الماء؟ أجابني قائلاً نعم لدى ماء بارد مثل الثلج أتمنى أن ينعشك وفي لمحة نزلت من فوق الناقة وأمسكت بالطاس ووضعته على شفتي وهذا أول ماء أشربه منذ 55 يوماً. شربت وشربت مرة أخرى طاساً ثالثاً عندئذ فقط ارتويت، ولم يحدث أن ذقت رحيقا في حياتي مثل هذا الرحيق ومع ذلك كان الماء هو ماء نايفة غير النظيف والمالح”.
انطلقت القافلة مجددا من نايفة في الخامس من مارس/ آذار بعد تخفيض عدد الجمال إلى 14 ناقة وجمل واحد وكلبة سلوقية رافقتهم، أما باقي الإبل فتم إرسالها مع 8 رجال إلى الرياض وضمت الأشياء غير الضرورية خلال الرحلة والخرائط ودفاتر الملاحظات التي دونها فيلبي خلال المحاولة الأولى.
وجرى تخفيض عدد أفراد القافلة التي قطعت الربع الخالي إلى 11 رجلاً، تحمل أقل ما يمكن من مؤن وأدوات للقيام بالرحلة الملحمية التي بلغ طولها 375 ميلاً خلال عشرة أيام من السير ليلاً نهاراً انطلاقا من نايفة إلى السليل.
سجل فيلبي خلال الرحلة التفاصيل الطبوغرافية للمنطقة والغطاء النباتي إن وجد، إلى جانب الحشرات النادرة التي عثر عليها وكذلك أي أثر لوجود الحيوانات في الربع الخالي.
يصف فيلبي إحدى اللحظات العصيبة التي واجهها في قلب الصحراء الخالية من أي أثر للحياة في كتابه بقوله: “وصلنا إلى أبشع الرقع الأرضية في فترة العصر. ونظراً لأننا لم نتناول رشفة واحدة من السوائل منذ الساعة الخامسة صباحاً بدأت أحس بالعطش….. حاولت إبعاد هذه الرغبة عني عن طريق أكل بعض البصلات التي كنت أحتفظ بها لكارثة من هذا القبيل وعندما انتهيت من أكل البصل رحت أمص حبات النعناع التي كانت في جيبي. لكن لسبب أو لآخر لم يجد ذاك العلاج، ووجدتني أزداد عطشاً على عطشي أكثر من ذي قبل……رفع سالم سلطانية الماء ناحيتي وكان الإغراء لا يقاوم. جلست على الأرض وشربت الماء – ماء فاتر ولونه بني غامق- إلى آخر قطرة في السلطانية….. كانت تلك شربتي الباردة الأولى منذ أن غادرنا نايفة التي باتت على بعد 250 ميلاً، لم أندم على معاقبتي نفسي بعدم شرب الماء. لقد هزمتني الصحراء”.
في أحد أيام الرحلة سارت القافلة لمدة 18 ساعة دون توقف تقريبا وقطعت خلالها 70 ميلاً ( الميل 1.610 كم) وسط بحر من الكثبان الرميلة والزلط.
خلال ستة أيام قطعت القافلة مسافة 270 ميلاً في ظل ظروف بالغة التعقيد والصعوبة أي أن القافلة سارت بمعدل 40 ميلا في اليوم الواحد.
ويصف فيلبي عميلة عبور صحراء أبو بحر بقوله: “إن الإبل التي عبرت أبي بحر في أشد أوقاته حرارة مشت مدة 48 ساعة بلا قشة واحدة من العلف، وصلت إلى الحالة المشينة التي هي عليها الآن. هذه الإبل مشت حوالي شهرين كاملين بلا راحة في هذه الصحراء الجرداء شديدة القحولة. هذه الرحلة لا يستطيع القيام بها سوى الإبل الممتازة وكانت إبلنا من أفضل أنواع الإبل التي في الجزيرة العربية كلها”.
ويصف فيلبي وصول القافلة إلى مشارف السليل بقوله: “كنا نشتهي لحم الطلي (الخروف)، طلي سمين مطبوخ طبخاً جيداً بعد حوالي شهرين ونصف الشهر أمضيناها بالقليل جداً من اللحم…….إننا كنا نتحرق شوقاً إلى الخبز الذي لم نتذوق طعمه منذ أن غادرنا الهفوف…. كنا نتطلع إلى أواني اللحم في السليل عندما شرعنا في السير نحوها بعد أن أوفدنا مراسلينا صباحاً”.
وجلب فيلبي معه عينات كثيرة من بقايا حيوانات عاشت سابقاً في الربع الخالي، وتلك التي لا تزال تعيش فيه مثل الخفافيش والثعالب والسحالي والقطط والأرانب والجرابيع والوعول البيضاء والغزال الأبيض.
كما جلب معه العديد من الطيور خلال تلك الرحلة، مثل الكروان العربي والحبارى والصقر العصفور ( الشبول) والبومة وأبو بليق والقنبرة، بينما دَوّن وجود طيور مثل العقاب والنسر وأبو حقب والدراجة والسراد والهدهد والسنونو، إضافة إلى العديد من الحشرات والفراشات.
المصدر: مجلة أحوال التاريخ