سلايد 1مقالات وبحوث

الحالة الأفغانية.. إعادة تموضع الإستراتيجية الأمريكية

بقلم: محمد سالم الراشد

منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 6 أبريل 2021م، قرار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان والتطورات الميدانية والسياسية تشير إلى تقدم قوات “طالبان” في الميدان العسكري والإستراتيجي، حيث إنها سيطرت على ما يقارب 153 مديرية من مجموع 364.

ولا يختلف أي مراقب سياسي على أن حالة الحكومة الأفغانية في كابل في تراجع إستراتيجي وعسكري وسياسي، بالرغم من أن القوات الأفغانية الحكومية ما زالت مسيطرة على مدن كثيرة من المحافظات الأفغانية وبقوات ذاتية، لكن توقف الدعم والمساندة والغطاء الأمريكي كان عاملاً مهماً في تقدم “طالبان”، وتقهقر الروح المعنوية والقتالية للقوات الحكومية.

ومع فشل حكومة أشرف غني، الرئيس الحالي للحكومة الأفغانية، في إدارة التفاوض مع “طالبان” من جهة، ومع الأمريكيين من جهة أخرى، في الوصول إلى اتفاق سلام يمركز السلطة بشكل أكبر لتحالف حكومة أشرف غني، حيث اعتبر غني أن ذلك يعد أولوية لاستقرار السلطة في أفغانستان، وبما أنه إلى الآن تفقد أي دولة إقليمية سلطتها التفاوضية على “طالبان”، فإن مسار الأحداث ينبئ إلى اقتراب متوقع بين أطراف النزاع في أفغانستان لترجح دورة الحرب الأهلية من جديد.

وقد يظن البعض أن نجاحات “طالبان” سيحسم استقرار السلطة في أفغانستان لصالحها، ويتفاءل بانتصاراتها الإسلامية على قوة عظمى، ظناً أن “طالبان” قد نجحت في إخراج الأمريكيين من أفغانستان بمنطق قوة التحرير، ويشبهها بالحرب الفيتنامية، وهو في المجمل العام فيه شيء من الصحة، لكن قد يكون هذا التحليل تنقصه الدقة والنظرة الإستراتيجية.

فالولايات المتحدة تضع أفغانستان في حساباتها مانعاً إستراتيجياً لقوى دولية كبرى كالصين وروسيا، وتريد الولايات المتحدة أن تستمر أفغانستان كمانع إستراتيجي، ولكن باستراتيجية «الإدارة من الخلف» لا «الإستراتيجية الميدانية».

من الواضح للقارئ الإستراتيجي أن “طالبان” لن يُسمح لها بالاستقرار في السلطة، ومن خلال التحليل التاريخي والنفسي للكتلة الطالبانية، فإن الطاقة الكامنة في هذا التنظيم القتالي هي «السيطرة الإقصائية بأقصى قوة ميدانية وقتالية وشرعية دينية»، وهو ما يتصادم مع حكومة أشرف غني وحلفائه من قوى المجاهدين القدماء أو قوى الشمال»، التي يسعها «التفاهم السياسي لا السيطرة السياسية»، كما أن هذه القوى أيضاً في داخلها قوى لا تؤمن بوجود “طالبان” في سدة الحكم أو شريكاً، خصوصاً بعد أن حكمت “طالبان” عام 1996م وأزيحت بغزو أمريكي عام 2001م، فقد عاشت “طالبان” تطبيقات دينية وإقصاءات ميدانية شديدة التطرف في الأخذ بالروايات المتشددة من المذهب الحنفي، وبالتطرف العرقي لقومية البشتون والطائفي ضد «شيعة الهزارة».

هذه العوامل النفسية والدينية والسياسية لكل الأطراف المتصارعة في أفغانستان صنعت فتيلاً متجدداً من الحروب الداخلية والطغيان القومي والمذهبي.

وعليه، فإن إدارة بايدن بعد سنوات من التواجد الميداني الداعم لعقدين من الزمان لحكومة مدنية متهمة بالفساد والاتكالية وعدم القدرة على السيطرة على مناطق التوتر والقتال نسخت إستراتيجيتها القديمة بإستراتيجية جديدة، وهي «نقل نموذج الشرق الوسط الاحترابي» لأفغانستان من أجل عقد جديد من المواجهة الإستراتيجية مع الصين وروسيا وإيران، ولكن بمعادلة «لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالقوة ومخالف له بالاتجاه».

وتتلخص إستراتيجية بايدن في خلق ظروف حرب أهلية بين “طالبان” وقوى تحالف حكومة كابل وقوى الشمال، فجميع الأطراف الأفغانية ستستعين بقوى إقليمية ودولية حيث تعتبر أفغانستان ممراً إستراتيجياً ما بين الشرق ومنطقة الخليج ودول آسيا الوسطى، ومن خلال أراضيها يمكن أن تبني شبكة خطوط حيوية للنقل والتصدير التجاري (نفط، غاز، مواد استهلاكية، معادن..)، وأهم خطين لنقل الغاز حالياً هما خط “TAPI” الذي يعبر من تركمانستان إلى باكستان والهند، وخط “IPI” الذي يعبر من إيران إلى نفس الدولتين.

عدا أن تكون أفغانستان بكراً للموارد الطبيعية (ذهب، نحاس، كوبالت، ليثيوم، حديد، يورانيوم)، بالإضافة إلى النفط والغاز، وبسبب ضعف قدرتها التكنولوجية والإدارية على التنقيب وعدم الاستقرار السياسي فيها، فقد باتت مسرحاً للغزو الخارجي.

لذا، فإن الاستعانة بالحليف الإقليمي والدولي سيكون أداة للاحتراب الداخلي، والعكس صحيح، فكل قوة إقليمية ودولية ستتبنى حليفاً داخلياً للحفاظ على مصالحها.

فـ”طالبان” ستستعين بالحليف الباكستاني لإسنادها، ولكن ما العوامل الجيوسياسية التي تدفع باكستان للتدخل الإقليمي في أفغانستان؟

هناك عدة عوامل تدفع باكستان للمشاركة في الفعاليات الجيوسياسية في أفغانستان، بسبب حاجة باكستان لحليف في السلطة يتفاهم معها لحل مشكلات الحدود التاريخية التي تفصل المناطق القبلية بين باكستان وأفغانستان، ولإيقاف التحركات القومية للبشتون داخل أفغانستان، بالإضافة لمنع نفوذ الهند والاستفراد بإيران بالتأثير الجيوسياسي داخل أفغانستان.

وعلى هذا الأساس، ستستجيب باكستان للضغط الأمريكي؛ إما بتسوية لحلفائها في السلطة، أو لدعمهم في الاحتراب المتوقع؛ وذلك لإشغال القوى الأفغانية عن التأثير في السياسة الداخلية لباكستان.

أما إيران، فقد دعمت التحالف الشمالي المقاتل لـ”طالبان” عام 1998م، ودعمت حلفاءها التقليديين (شيعة الهزارة)، وساهمت في شيطنة “طالبان” لإسقاطها، في نوفمبر 2001م.

– ومن صالح إيران ألا يكون للولايات المتحدة تواجد قوي في أفغانستان، إذ إن ذلك يشكل عامل حصار وضغط عليها.

– لذلك بدأت بإعادة علاقاتها مع “طالبان” بسبب الحصار والتواجد الأمريكي، ولمواجهة “داعش” في ولاية خراسان، خصوصاً وإن “طالبان” تسيطر على ولايتي هلمند وقندوز؛ مما يؤمن لإيران حدودها الممتدة نحو 572 ميلاً مع أفغانستان.

– ووجود “طالبان” في السلطة يؤمِّن لإيران ثقلاً جيوسياسياً في أفغانستان، ويعزز نفوذ حلفائها الشيعة.

وقد انجذبت تركيا إلى الحالة الأفغانية منذ دخولها كدولة مشاركة في حلف “الناتو”.

لكن الآن، فإن أهداف تركيا الجيوسياسية هي:

– أن لدى تركيا امتداداً قومياً في مناطق الأوزبك، وهي إحدى أهم القوميات في أفغانستان، وكذلك فإن أفغانستان رابط مهم مع دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية.

– فالدور التركي سيقتصر على مساعدة السلطة في أفغانستان أياً كانت في تأمين مطار كابل وتحسين العلاقة مع “طالبان”.

– وأيضاً فإن تحسين الوضع الجيوسياسي لتركيا في أفغانستان سيساهم في ربط إستراتيجي مع باكستان.

وهذا السيناريو أيضاً سيدعم تدخل الدول الكبرى للحفاظ على مصالحها ودعم أحد أطراف الحرب فيها.

أما بالنسبة لروسيا، فقد:

– تغيرت سياسة روسيا في أفغانستان في عهد فلاديمير بوتين، وبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي القديم، وتعاونت مع الولايات المتحدة في توفير تسهيلات للقوات الأمريكية ضد “طالبان” إلى عام 2015م، حيث تبدلت المصالح بسبب العقوبات الاقتصادية على موسكو فنمت علاقاتها مع “طالبان”.

وأما الصين، فإنها:

– تخشى من تحالف “طالبان” مع حركات التحرر في الأويغور حيث تتواجد في أفغانستان (حركة تركستان الشرقية الإسلامية).

– كما تعتبر أفغانستان ممراً طبيعياً لمشروع الصين العالمي «حزام الطريق»، وهي أكبر شريك تجاري مع أفغانستان، وأكبر مستثمر فيها.

وهذا ما يجعلها تميل إلى حلفائها في حكومة أشرف غني وقوى الشمال.

جميع الأطراف ستحافظ على حليف إقليمي وآخر دولي للسيطرة والبقاء في السلطة أو السيطرة على أقاليم يمكن فصلها كجغرافية سياسية له، وعليه فإن الولايات المتحدة ستدير سيناريو «نموذج إستراتيجي جديد» في أفغانستان لمصالحها الإستراتيجية المتمثلة في:

– إفشال الاتفاقيات الصينية الاقتصادية التجارية بينها وبين أفغانستان، أضف إلى ذلك تخريب مشروع الممر الاقتصادي لمشروع «طريق الحرير».

– وستشكل عوامل لسحب روسيا للداخل لصالح حلفائها في الحرب الأهلية واستهلاكها في مشهد إستراتيجي جديد.

– وتسهيل فتح جبهة احتراب جديدة مع إيران بينها وبين قوى احتراب تعادي إيران وإنهاكها لجر إيران لموقف تفاوضي أضعف في الاتفاق النووي، حيث احتمالات فشل المفاوضات حول هذا الاتفاق واضحة للطرفين.

– وستعمل على استمرار جر باكستان في التحالف الأمريكي دون الانحياز للصين في سياساتها العامة الاقتصادية والعسكرية وداخل أفغانستان.

– واستخدام الحالة الأفغانية كورقة ضغط على تركيا للاستجابة للمطالب الأمريكية في المنطقة، وفك الارتباط مع روسيا في تفاهمات الطرفين.

– ولن تتمكن “طالبان” من حكم أفغانستان بسبب طبيعة تشكيلتها العقدية والسياسية، وعدم قدرتها على إدارة الحياة السياسية والمدنية (فشل سابق 1996 – 2001م)، فإدارة الحرب تختلف عن إدارة الدولة.

– حيث إن كل الإمكانات والطاقات والقدرة على إدارة الدولة موجودة عند أطراف الحكومة المدنية الأفغانية، ومن ثم هناك توازن في القوة والإمكانات.

وعليه، فـ”طالبان” وقوات أشرف غني وحلفاؤهما سيظلون تحت الحاجة للتدخل الأمريكي.

– وستفقد الحلول السياسية قيمتها بسبب سياسة المدافع والبنادق والقوة التي تنسجها الأطراف المتنازعة في أفغانستان.

لذا، فقد كانت النقلة الإستراتيجية للولايات المتحدة في أفغانستان هي إعادة التموضع الإستراتيجي من حالة إدارة ذاتية وتواجد مكلف ومجهد للحالة الأفغانية ليتحول إلى إدارة من الخلف، وإيجاد البيئة المناسبة (حرب أهلية ذات أبعاد إستراتيجية)، وإن بدأت بسيناريو اتفاق سياسي تعرف الولايات المتحدة أنه سيفشل بسبب طبيعة التركيبة العامة لقوى الاحتراب الأفغاني وطبيعة الصراع الدولي والإقليمي في أفغانستان.

شرارة الحرب

يبدو أن شرارة الحرب ستؤمنها قوى إرهابية خارجية نقلت بالفعل وما زال نقلها مستمراً من دول الشرق الأوسط إلى أفغانستان، وهي أحد تفاهمات الولايات المتحدة مع بعض حلفائها لنقل تلك القوى الإرهابية الخارجية، وستكون هذه القوى في كُمون تكتيكي وتتحالف مع “داعش” أفغانستان، لتكرار سيناريو الحرب على الإرهاب، ولكن هدفها تطوير الاحتراب، وإشعال فتائل الانفجار بين “طالبان” وقوى التحالف للمقاتلين مع الحكومة الأفغانية، وبتلك الشرارة يبدأ السيناريو الجديد، حيث إن الأطراف المتصارعة في أفغانستان تعتبر أن عوامل بقائها هي الحرب مع الآخر، وهي عقيدة قتالية تُحسن الولايات المتحدة تطويرها.

الحل السياسي

لا بد للحل السياسي من قوة تحميه وتحافظ عليه، وهو يضع سيناريوهين داخله؛ إما أن ينجح وحينها ستفوز الولايات المتحدة لأنها طورت علاقاتها مع “طالبان”، وبالأساس فحكومة غني حكومة تحت الظلال الأمريكية، أو أن يفشل، وبالتالي فإن سيناريو الحرب الأهلية سيستمر، وتنتهز الولايات المتحدة هذه الحرب لأهدافها الإستراتيجية لمواجهة الصين وروسيا وإيران لعقد قادم.

المصدر: مجلة المجتمع

اترك تعليقاً

إغلاق